الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث
وهي مشتقة من التحول بمعنى الانتقال، يقال: تحوّل من المنزل إذا انتقل عنه، ومنه تحويل الفراش. وفي الشرع: نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ولهذا قلنا: إذا صحت الحوالة برئ المحيل لتحوله إلى ذمة المحال عليه، لأن من المحال بقاء الشيء الواحد في محلين في زمان واحد، وهو عقد مشروع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أحيل على مليء فليتبع) أمر باتباعه، ولولا الجواز لما أمر به، حتى إن من العلماء من قال بوجوب الاتباع نظرا إلى ظاهر الحديث، ونحن نقول: المراد منه الإباحة، لأن تحول حقه إلى ذمة أخرى من غير اختياره ضرر به، وإنما خصه عليه الصلاة والسلام بالملئ حكما للغالب، لأن الغالب في الحوالات ذلك لأنه شرط الجواز. ثم عند أبي يوسف الحوالة توجب براءة المحيل من الدين والمطالبة براءة مؤقتة إلى أن يتوي ما على المحال عليه، حتى لو أبرأ المحال المحيل صح؛ ولو أحال الراهن المرتهن بدينه استرد الرهن. وعند محمد توجب البراءة من المطالبة دون الدين فلا يصح الإبراء، ولا يسترد الراهن الرهن. لمحمد رحمه الله أن نقل الدين غير ممكن لأنه تمليك المال وذلك لا يقبل النقل، وموجبه المطالبة وهي تقبل النقل، ولهذا لو أدى المحيل الدين أجبر المحال على قبوله. ولأبي يوسف رحمه الله أن الحوالة أضيفت إلى الدين، ولو أضيفت إلى المطالبة لا تكون حوالة، فوجب القول بتحويل الدين لحقيقة الإضافة، وإنما صح الأداء من المحيل لأنه ثبت له بالحوالة براءة مؤقتة، وبالأداء تثبت له براءة مؤبدة وأنه زيادة فائدة. قال: (وهي جائزة بالديون دون الأعيان) لما مر أنها تبنى على التحول، وإنما تتحول الديون دون الأعيان. قال: (وتصح برضا المحيل والمحتال والمحال عليه) أما المحيل فلأنه الأصل في الحوالة، ومنه توجد؛ وذكر في الزيادات أن رضا المحيل ليس بشرط لأن المحال عليه يتصرف في نفسه بالتزام الدين ولا ضرر على المحيل بل فيه نفعه، لأنه لا يرجع عليه إلا برضاه. وأما المحتال والمحال عليه، فلتفاوت الناس في القضاء والاقتضاء، فلعل المحال عليه أعسر وأفلس، والمحال أشد اقتضاء ومطالبة، فيشترط رضاهما دفعا للضرر عنهما. قال: (وإذا تمت الحوالة برئ المحيل) لما مر. وقال زفر: لا يبرأ لأنها للاستيثاق فبقي الدين على المحيل كالكفالة. وجوابه ما مر أنها من التحويل، ولا بقاء مع التحويل على ما بينا فيبرأ المحيل (حتى لو مات لا يأخذ المحتال من بركته، لكن يأخذ كفيلا من الوراثة أو من الغرماء مخافة التوى، ولا يرجع عليه المحتال إلا أن يموت المحال عليه مفلسا أو يجحد ولا بينة عليه) لأنه عجز عن الوصول إلى حقه، والمقصود من الحوالة سلامة حقه فكانت مقيدة بالسلامة، فإذا فاتت السلامة انفسخت كالعيب في المبيع. وعندهما يرجع بوجه آخر أيضا، وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه في حياته بناء على أن الإفلاس يتحقق عندهما بقضاء القاضي وعنده لا. قال: (فإن طالب المحتال عليه المحيل فقال: إنما أحلت بدين لي عليك لم يقبل) وعليه مثل ما أحال لتحقق السبب وهو قضاء دينه بأمره، لكن المحيل يدعي عليه دينا وهو ينكر، والقول قول المنكر، والحوالة ليست إقرارا بالدين فإنها تكون بدونه (وإن طالب المحيل المحتال بما أحاله به فقال: إنما أحلتني بدين لي عليك لم يقبل) لأن المحتال يدعي عليه الدين وهو ينكر، وفي الحوالة معنى الوكالة فيكون القول قوله.
وهو ضد الفساد، يقال: صلح الشيء إذا زال عنه الفساد، وصلح المريض إذا زال عنه المرض، وهو فساد المزاج، وصلح فلان في سيرته إذا أقلع عن الفساد. وفي الشرع: عقد يرتفع به التشاجر والتنازع بين الخصوم وهما منشأ الفساد ومثار الفتن، وهو عقد مشروع مندوب إليه، قال تعالى: {فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] وقال تعالى: {والصلح خير} [النساء: 128] وقال صلى الله عليه وسلم: (كل صلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا حرّم حلالا أو حلّل حراما) وقال عمر رضي الله عنه: ردوا الخصوم كي يصطلحوا. قال: (ويجوز مع الإقرار والسكوت والإنكار) لإطلاق ما روينا من النصوص. قال أبو حنيفة رضي الله عنه: أجود ما يكون الصلح عن إنكار لأن الحاجة إلى جوازه أمس، لأن الصلح لقطع المنازعات وإطفاء الثائرات، وهو في الصلح عن الإنكار أبلغ، وللحاجة أثر في تجويز المعاقدات، ففي إبطاله فتح باب المنازعات. قال: (فإن كان عن إقرار وهو بمال عن مال فهو كالبيع) لوجود معنى البيع وهو مبادلة مال بمال بتراضي المتعاقدين والعبرة للمعاني، فيثبت فيه خيار الرؤية والعيب والشرط والشفعة، ويشترط القدرة على تسليم البدل ويفسده جهالة البدل لإفضائها إلى المنازعة، ولا تفسده جهالة المصالح عنه لأنه إسقاط. قال: (وإن كان بمنافع عن مال فهو كالإجارة) لوجود معنى الإجارة، وهو تمليك المنافع بمال حتى تبطل بموت أحدهما في المدة كما في صورة الإجارة (فإن استحق فيه بعض المصالح عنه رد حصته عن العوض، وإن استحق الجميع رد الجميع) لأنه مبادلة كالبيع وحكم البيع كذلك (وإن استحق كل المصالح عليه رجع بكل المصالح عنه وفي البعض بحصته) لأنه مبادلة لما مر. قال: (والصلح عن سكوت أو إنكار معاوضة في حق المدعي) لأن من زعمه أنه يأخذ عوضا عن ماله وأنه محق في دعواه (وفي حق المدعى عليه لافتداء اليمين) لأن من زعمه أن لا حق عليه وأن المدعي مبطل في دعواه، وإنما دفع المال لئلا يحلف ولتنقطع الخصومة (وإن استحق فيه المصالح عليه رجع إلى الدعوى في كله وفي البعض بقدره) لأنه ما ترك الدعوى إلا ليسلم له المصالح عليه، فإذا لم يسلم له رجع إلى دعواه لأنه البدل (وإن استحق المصالح عنه رد العوض) ورجع بالخصومة. (وإن استحق بعضه رد حصته ورجع بالخصومة فيه) لأن المدعى عليه إنما بذل العوض ليدفع الخصومة عنه، فإذا استحقت الدار ظهر أن لا خصومة فبطل غرضه فيرجع بالعوض، وفي البعض خلا المعوض عن بعض العوض فيرجع بقدره (وهلاك البدل) قبل التسليم (كاستحقاقه في الفصلين) قال: (ويجوز الصلح عن مجهول) لأنه إسقاط (ولا يجوز إلا على معلوم) لأنه تمليك فيؤدي إلى المنازعة. والصلح على أربعة أوجه: معلوم على معلوم. ومجهول على معلوم وهما جائزان، وقد مر الوجه فيهما. ومجهول على مجهول. ومعلوم على مجهول وهما فاسدان. فالحاصل أن كل ما يحتاج إلى قبضه لا بد أن يكون معلوما لأن جهالته تفضي إلى المنازعة، وما لا يحتاج إلى قبضه يكون إسقاطا ولا يحتاج إلى علمه به لأنه لا يفضي إلى المنازعة، ولو ادعى حقا في دار لرجل ولم يسمه وادعى المدعى عليه حقا في أرضه فاصطلحا على أن يدفع أحدهما مالا إلى الآخر لا يجوز، وإن اصطلحا على أن يترك كل واحد منهما دعواه جاز، لأنه لا يحتاج إلى التسليم وفي الأول يحتاج إليه، ولو ادعى دارا فصالحه على قدر معلوم منها جاز ويصير كأنه أخذ بعض حقه وأبرأه عن دعوى الباقي، والبراءة عن العين وإن لم تصح لكن البراءة عن الدعوى تصح، فصححناه على هذا الوجه قطعا للمنازعة. قال: (ويجوز) الصلح (عن جناية العمد والخطأ) في النفس وما دونها لإطلاق النصوص ولقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء} [البقرة: 178] نزلت عقيب ذكر القصاص، ومعناه: فمن عفي له من دم أخيه شيء: أي ترك القصاص ورضي بالمال، يدل عليه قوله تعالى: {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة: 178] أي يتبع الطالب والمطلوب بما صالحه عليه أو بالدية ولا يطلب أكثر من حقه، ويؤدي المطلوب إلى الطالب ما وجب عليه من المال من غير مماطلة، مرويّ ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وهذا في العمد، وأما الخطأ فلأن الواجب هو المال فأشبه سائر الديون، إلا أنه لو صالح في العمد على أكثر من الدية جاز، لأن الواجب القصاص وليس بمال، وفي الخطأ لو صالح على أكثر من الدية لا يجوز لأن الواجب المال فالزيادة ربا، وهذا إذا صالحه على نوع من أنواع الدية. أما إذا صالحه على نوع آخر كالحنطة والشعير ونحوهما فإنه يجوز بالغة ما بلغت لأنها من خلاف الواجب فلا ربا، وكل ما يصلح مهرا في النكاح يصلح بدلا في الصلح عن دم العمد، وما لا فلا، لأن كل واحد منهما مبادلة المال بغير المال، فإن صالحه على خمر أو خنزير سقط القصاص ولا يجب شيء لأن المال ليس من ضرورات الصلح فلغا ذكر العوض فيبقى عفوا، وفي الخطأ تجب الدية لأنه الموجب الأصلي فمتى فسد العوض رجع إليه كما في النكاح متى فسد المسمى يرجع إلى مهر المثل لأنه موجب أصلي لا ينفك عنه النكاح إلا بتسمية غيره، فإذا عدمت التسمية أو فسدت رجع إليه، ولا كذلك العمد؛ ولو صالحه بعفو عن دم على عفو عن دم آخر جاز كالخلع، ولو قطعت يده فصالحته على أن يتزوجها وقد برأت يده جاز، لأنه صالحها على أرش وتجب له عليها وسقط الأرش، وإن مات منها لها مهر مثلها وعليها الدية في ثلاث سنين، لأنه ظهر أن حقه في القتل فلم تصح التسمية، ولو استحق العبد المصالح عليه رجع بقيمته في العمد وبالدية في الخطأ وقد عرف وجهه، ولو وجد عيبا يسيرا رده في الخطأ ولا يرد في العمد إلا بالفاحش فيرده، ويأخذ قيمته، لأن الصلح في الخطأ يحتمل الفسخ لوقوعه عن مال، وفي العمد لا يحتمل الفسخ لأنه عن القصاص وقد سقط فلا سبيل إلى استرداده فيرجع بقيمة العوض كالنكاح والخلع. قال: (ولا يجوز عن الحدود) لأنها حق الله تعالى والمغلب في حد القذف حق الشرع عندنا، ولا يجوز الاعتياض عن حق الغير، ولهذا لا يجوز الصلح عما أشرعه إلى الطريق العام كالظلة والروشن ونحوهما لأنه حق العامة، ولا يملك الاعتياض عن نصيبه لأنه غير منتفع به، ولو صالحه الإمام في الظلة ونحوها جاز إذا رأى ذلك مصلحة للمسلمين ويضع بدله في بيت المال كما إذا باع شيئا من بيت المال. قال: (ولو ادعى على امرأة نكاحا فجحدت ثم صالحته على مال ليترك الدعوى جاز) لأنه أمكن تصحيحه على وجه الخلع ويكون في حقها لدفع الخصومة، ويحرم عليه ديانة إذا كان مبطلا (ولو صالحها على مال لتقر له بالنكاح جاز) ويجعل زيادة في المهر لأنها تزعم أنها زوجت نفسها منه ابتداء بالمسمى وهو يزعم أنه زاد في مهرها (ولو ادعت المرأة النكاح فصالحها) على مال (جاز) وقيل لا يجوز، وجه الجواز جعله زيادة في المهر، ووجه عدم الجواز وهو الأصح أنه إنما أعطاها المال لتترك الدعوى، فإن تركتها وكان فرقة فهو لا يعطى في الفرقة البدل، وإن لم تترك الدعوى فما حصل له غرضه فلا يصح. قال: (وإن ادعى على شخص أنه عبده فصالحه على مال جاز ولا ولاء عليه) لأنه أمكن تصحيحه بجعله في حق المدعي كالعتق على مال، وفي حق المدعى عليه لدفع الخصومة لأنه يزعم أنه حر الأصل فلهذا لم يكن عليه ولاء لإنكاره، فإن أقام المدعي بينة بعد ذلك أنه عبده لم تقبل، لأن من زعمه أنه أعتقه على مال، وأن العبد اشترى نفسه بهذا المال، لكن يثبت الولاء عملا بالبينة. قال: (عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته لم يجز) الفضل لأن القيمة منصوص عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (قوّم عليه باقيه) فلا تجوز الزيادة عليه، ولو صالحه على عوض جاز لعدم الجنسية فلا ربا. قال: (ويجوز صلح المدعي المنكر على مال ليقر له بالعين) وصورته: رجل ادعى على رجل عينا في يده فأنكره فصالحه على مال ليعترف له بالعين فإنه يجوز ويكون في حق المنكر كالبيع، وفي حق المدعي كالزيادة في الثمن. قال: (والفضولي إن صالح على مال وضمنه أو سلمه، أو قال: على ألفي هذه صح) ولزمه تسليم المال، ولا يرجع على المدعى عليه بشيء لأنه تبرع، وإنما صح الصلح لأنه أضافه إلى نفسه أو إلى ماله. والحاصل للمدعى عليه البراءة، ولا ضرر عليه في ذلك فيصح، وصار كالكفالة بغير أمر المديون (وإن قال: عليّ ألف لفلان يتوقف على إجازة المصالح عنه) إن أجازه جاز ولزمه الألف، وإن لم يجزه بطل كالخلع والنكاح وغيرهما من تصرفات الفضولي، ولو قال: صالحتك على ألف وسكت قيل ينفذ ويجب عليه لأنه أضاف العقد إلى نفسه كقوله اشتريت؛ وقيل يتوقف على إجازة المدعى عليه لأن الإضافة لم تتحقق إليه، لأن الفعل كما يقع لنفسه يقع لغيره، وإنما يعتبر واقعا له إذا كان له فيه منفعة، ولا منفعة له هنا وإنما المنفعة للمدعى عليه فاعتبر واقعا له، بخلاف قوله صالحني، لأن الياء كناية عن المفعول فقد جعل نفسه مفعول الصلح فيقع له. قال: (والصلح عما استحق بعقد المداينة أخذ لبعض حقه وإسقاط للباقي وليس معاوضة) لأنا لو اعتبرناه معاوضة يكون ربا، وتصحيح تصرفه واجب ما أمكن، وقد أمكن بما ذكرناه من الطريق فيصار إليه (فإن صالحه على ألف درهم بخمسمائة، أو عن ألف جياد بخمسمائة زيوف، أو عن حالة بمثلها مؤجلة جاز) ففي الأولى أسقط بعض حقه، وفي الثانية بعضه والصفة، وفي الثالثة تعذر جعله معاوضة النقد بالنسيئة لحرمته فحملناه على تأجيل نفس الحق وكل ذلك حقه فله إسقاطه (ولو صالحه على دنانير مؤجلة لم يجز) لأنه بيع الدراهم بالدنانير نسيئة، وإنه لا يجوز لأنها ليست من جنس الحق المستحق ليكون إسقاطا لبعضه وتأجيلا لبعضه فتعين ما ذكرناه؛ ولو صالحه على ألف مؤجلة بخمسمائة حالة لم يجز لأنه اعتياض عن الأجل، ولا يجوز لأن المعجلة خير من المؤجلة، فيكون التعجيل بإزاء ما حط عنه فلا يصح. قال: (ولو صالحه عن ألف سود بخمسمائة بيض لا يجوز) لأن البيض غير مستحقة فيكون معاوضة وإنه لا يجوز (ولو قال له: أدّ إليّ غدا خمسمائة على أنك بريء من خمسمائة فلم يؤدها إليه فالألف بحالها) وقال أبو يوسف: سقط خمسمائة، وأجمعوا أنه لو أدى خمسمائة غدا برئ، لأبي يوسف أنه إبراء مطلق لأنه جعل الأداء عوضا عن الإبراء نظرا إلى كلمة عليّ، والأداء لا يصلح أن يكون عوضا لوجوبه عليه فصار ذكره كعدمه. ولهما أنه إبراء مقيد بشرط الأداء، وإنه غرض صالح حذرا من إفلاسه أو ليتوسل بها إلى ما هو الأنفع من تجارة رابحة أو قضاء دين أو دفع حبس، فإذا فات الشرط بطل الإبراء، وكلمة على تحتمل الشرط فيحمل عليه عند تعذر المعاوضة تصحيحا لكلامه وعملا بالعرف. ولو قال: أبرأتك من خمسمائة من الألف على أن تعطيني الخمسمائة غدا صح الإبراء أعطي الخمسمائة أو لم يعط، لأنه أطلق الإبراء ووقع الشك في تعليقه بالشرط فلا يتقيد، بخلاف المسألة الأولى لأنه من حيث إنه لا يصلح عوضا يقع مطلقا، ومن حيث إنه يصلح شرطا لا يقع مطلقا فلا يثبت الإطلاق بالشك. ولو قال: أدّ إليّ خمسمائة على أنك بريء من الفضل ولم يوقّت فهو إبراء مطلق، لأن الأداء واجب عليه في جميع الأوقات فلم يصلح عوضا فلم يتقيد. ولو قال: صالحتك من الألف على خمسمائة تدفعها إليّ غدا وأنت بريء من الباقي على أنك إن لم تدفعها غدا فالألف عليك فهو كما قال لأنه صرّح بالتقييد. ولو ادعى عبدا فصالحه على غلته شهرا لم يجز، وعلى خدمته شهرا يجوز، لأنها معلومة والغلة مجهولة غير مقدورة التسليم، لأنها لا تجب إلا بعد الإجارة والعمل. قال: (ولو صالح أحد الشريكين عن نصيبه بثوب فشريكه إن شاء أخذ منه نصف الثوب) لأن له حق المشاركة لأنه عوض عن دينه، فإذا اختار ذلك فقد أجاز فعل الشريك (إلا أن يعطيه ربع الدين) لأنه حقه في الدين لا في الثوب (وإن شاء اتبع المديون بنصفه) لبقاء حصته في ذمته، لأنه لم يأذن له بالدفع إلى غيره، والدين المشترك كالموروث وقيمة عين مستهلكة بينهما وثمن مبيع ونحوه. قال: (ولا يجوز صلح أحدهما في السلم على أخذ نصيبه من رأس المال) عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويتوقف على إجازة شريكه، فإن رد بطل أصلا وبقي المسلم فيه بينهما على حاله وإن أجاز نفذ عليهما فيكون نصف رأس المال بينهما وباقي الطعام بينهما، لأنه قسمة الدين قبل قبضه فلا يجوز، كما إذا كان لهما على رجل دراهم على آخر دنانير، فتصالحا على أن لهذا الدراهم ولهذا الدنانير فإنه لا يصح. وبيان كونه قسمة أنه يمتاز أحد النصيبين عن الآخر ولأنه فسح على شريكه عقده، فلا يجوز لأن العقد صدر منهما، ولهذا يرجع عليه بنصف رأس المال إذا توي الباقي على المطلوب. وقال أبو يوسف رحمه الله: جاز الصلح وله نصف رأس المال، وصاحبه إن شاء شاركه قيما قبض وإن شاء اتبع المطلوب بنصفه، إلا إذا توي عليه فيرجع على شريكه، له الاعتبار بسائر الديون، وبما إذا اشتريا عبدا فأقال أحدهما في نصيبه. قال: (وإن صالح الورثة بعضهم عن نصيبه بمال أعطوه والتركة عروض جاز قليلا أعطوه أو كثيرا) لما بينا أنه في معنى البيع، وعثمان رضي الله عنه صالح تماضر امرأة عبد الرحمن بن عوف عن ربع الثمن وكان له أربع نسوة على ثمانين ألف دينار بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير. قال: (وكذلك إن كانت أحد النقدين فأعطوه خلافه) لأن بيع الجنس بخلافه جائز (وكذلك لو كانت نقدين فأعطوه منهما) ويصرف كل واحد منهما إلى خلاف جنسه، وقد مر في البيوع؛ ثم إن كان في يده شيء من التركة، إن كان مقرا به يكون أمانة، فلا بد من تجديد القبض فيه لأنه أضعف من قبض الصلح فلا ينوب عنه، وإن كان جاحدا له صار مضمونا عليه فينوب عن قبض الصلح (ولو كانت نقدين وعروضا فصالحوه على أحد النقدين، فلا بد أن يكون أكثر من نصيبه من ذلك الجنس) ليكون نصيبه بمثله والزيادة بحقه من بقية التركة تحرزا عن الربا (ولو كان بدل الصلح عرضا جاز مطلقا) لعدم تحقق الربا، وكل موضع يقابل فيه أحد النقدين بالآخر يشترط القبض بالمجلس لأنه صرف. قال: (وإن كان في التركة ديون فأخرجوه منها على أن تكون لهم لا يجوز) لأنه تمليك الدين من غير من عليه دين (وإن شرطوا براءة الغرماء جاز) لأنه إسقاط أو تمليك الدين ممن هو عليه وإنه جائز، وإن كان على الميت دين لا يصالحون ولا يقسمون حتى يقضوا دينه لتقدم حاجته، ولقوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء: 11] وإن قسموها، فإن كان الدين مستغرقا للتركة بطلت لأنه لا ملك لهم فيها، وإن كان غير مستغرق جاز استحسانا لا قياسا، والله سبحانه أعلم.
الشرك: النصيب، قال صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركا له في عبد) أي نصيبا. قال النابغة الجعدي: وشاركنا قريشا في تقاها وفي أحسابها شرك العنان أي أخذنا نصيبا من التقى والحسب مثل نصيب قريش منهما، كشركة العنان لكل واحد نصيب من المال والكسب، وسمي الشريكان لأن كل واحد منهما شركا في المال: أي نصيبا. وهي في الشرع: الخلطة وثبوت الحصة، وهي مشروعة بالنصوص، قال عليه الصلاة والسلام: (يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما) وقال عليه الصلاة والسلام: (الشريكان الله ثالثهما ما لم يخونا، فإذا خانا محيت البركة بينهما) وكان قيس بن السائب شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في تجارة البز والأدم). وذكر الكرخي أسامة بن شريك، وقال عليه الصلاة والسلام في صفته: (كان شريكي وكان خير شريك لا يشاري ولا يماري ولا يداري) أي لا يلح ولا يجادل ولا يدافع عن الحق، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتعاملونها فلم ينكر عليهم وتعاملوا بها إلى يومنا هذا من غير نكير فكان إجماعا. قال: (الشركة نوعان: شركة ملك، وشركة عقد. فشركة الملك نوعان: جبرية، واختيارية. وشركة العقود نوعان: شركة في المال، وشركة في الأعمال. فالشركة في الأموال أنواع: مفاوضة، وعنان، ووجوه، وشركة في العروض. والشركة في الأعمال نوعان: جائزة وهي شركة الصنائع، وفاسدة وهي الشركة في المباحات) وسيأتيك بيان ذلك إن شاء الله تعالى. أما شركة الأملاك، أما الجبرية بأن يختلط مالان لرجلين اختلاطا لا يمكن التمييز بينهما أو يرثان مالا. والاختيارية أن يشتريا عينا أو يتهبا أو يوصى لهما فيقبلان أو يستوليا على مال أو يخلطا مالهما، وفي جميع ذلك كل واحد منهما أجنبي في نصيب الآخر لا يتصرف فيه إلا بإذنه لعدم إذنه له فيه، ويجوز بيع نصيبه من شريكه في جميع الوجوه، وأما من غيره فما ثبتت الشركة فيه بالخلط أو الاختلاط لا يجوز إلا بإذن شريكه، لأن الخلط استهلاك معنى فأورث شبهة زوال ملك نصيب كل واحد منهما إلى صاحبه، وفيما يثبت بالميراث والبيع والهبة والوصية يجوز بيع أحدهما نصيبه من أجنبي بغير إذن صاحبه، لأن ملك كل واحد منهما قائم في نصيبه من كل وجه. وأما شركة العقود فركنها الإيجاب والقبول وهو أن يقول: شاركتك في كذا وكذا فيقول الآخر: قبلت. وشرطها أن يكون التصرف المعقود عليه قابلا للوكالة حتى لا يجوز على الاحتطاب وأشباهه ليكون الحاصل بالتصرف مشتركا بينهما إذ هو المطلوب من عقد الشركة. (أما المفاوضة فهو أن يتساويا في التصرف والدين والمال الذي تصح فيه الشركة) لأنها في اللغة تقتضي المساواة، يقال: فاوض يفاوض: أي ساوى يساوي، فلا بد من تحقق المساواة ابتداء وانتهاء وذلك فيما ذكرناه. أما المال فلأنه الأصل في الشركة ومنه يكون الربح. وأما التصرف فلأنه متى تصرف أحدهما تصرفا لا يقدر الآخر عليه فاتت المساواة، وكذا في الدين لأن الذمي يملك من التصرف في بيع الخمر والخنزير وشرائهما ما لا يملكه المسلم فلا مساواة بينهما، فلهذا قلنا: لا يصح بينهما مفاوضة. وقال أبو يوسف رحمه الله: تنعقد المفاوضة بينهما، لأن ما يملكه الذمي من بيع الخمر والخنزير يملكه المسلم بالتوكيل فتحققت المساواة، قلنا الذمي يملك ذلك بنفسه وبنائبه، ولا كذلك المسلم فانتفت المساواة، فإذا عقدا المفاوضة صارت عنانا عندهما لفوات شرط المفاوضة ووجود شرط العنان، وكذلك كل ما فات شرط من شرائط المفاوضة يجعل عنانا إذا أمكن تصحيحا لتصرفهما بقدر الإمكان. قال: (ولا تصح إلا بين الحرين البالغين العاقلين المسلمين أو الذميين) وإن كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا لتساويهما في التصرف ولا تصح بين العبد والحر، ولا بين الصبي والبالغ للتفاوت بينهما، فإن الحر والبالغ يملكان الكفالة والتبرعات، ولا كذلك الصبي والعبد، أو يملكانها بإذن الولي والمولى، ولا تصح بين العبدين ولا بين الصبيين ولا بين المكاتبين، لأن هؤلاء ليسوا من أهل الكفالة وأنها تنعقد على الكفالة على ما نبينه إن شاء الله تعالى. والأصل في جوازها قوله صلى الله عليه وسلم: (فاوضوا فإنه أعظم للبركة) ولأنها تشتمل على الوكالة والكفالة والشركة في الربح وكل واحد منها جائز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع. قال: (ولا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة) لأن العوامّ قلما يعلمون شرائطها، وهذه اللفظة تتضمن شرائطها ومعناها (أو تبيين جميع مقتضاها) لأن العبرة للمعاني. قال: (ولا يشترط تسليم المال) لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود. قال: (ولا خلطهما) لأن المقصود الخلط في المشترى، وكل واحد منهما يشتري بما في يده بخلاف المضاربة، لأنه لا بد من التسليم ليتمكن من الشراء، ويشترط حضوره عند العقد أو عند المشترى، لأن الشركة تتم بالشراء لأن الربح به يحصل. قال: (وتنعقد على الوكالة والكفالة) لأن المساواة بذلك تتحقق، وهو أن يكون كل واحد منهما مطالبا بما طولب به صاحبه بالتجارة وهو الكفالة، وأن يكون الحاصل في التجارة بفعل أيهما كان مشتركا بينهما وهي الوكالة، فكان معنى المفاوضة وهو المساواة يقتضي الكفالة والوكالة، فكأن كل واحد منهما فوض إلى الآخر أمر الشركة على الإطلاق ورضي بفعله، وذلك يقتضي الوكالة والكفالة أيضا. قال: (فما يشتريه كل واحد منهما على الشركة) عملا بعقد المفاوضة (إلا طعام أهله وإدامهم وكسوتهم وكسوته) والقياس أن يكون على الشركة بمقتضى العقد، إلا أنا استحسنا ذلك للضرورة، فإن الطعام والكسوة من اللوازم، ولا يمكن إيجادها من مال غيره فيجب في ماله ضرورة. قال: (وللبائع مطالبة أيهما شاء بالثمن) بمقتضى الكفالة ثم يرجع الكفيل على المشتري بنصف ما أدى لأنه كفيل أدى عنه بأمره. قال: (وإن تكفل بمال عن أجنبي لزم صاحبه) وقالا: لا يلزمه لأنه تبرع حتى لا يصح من الصبي والمأذون وصار كالإقراض، وله أنه تبرع ابتداء لما ذكر معاوضة انتهاء لأنه يجب له الضمان على المكفول عنه حتى لو كفل عنه بغير أمره لا يلزم شريكه، وبالنظر إلى المعاوضة يلزم شريكه والإقراض ممنوع أو يقول هو إعارة، ولهذا لا يصح فيه التأجيل، وللمردود في الإعارة حكم العين لا حكم البدل، فلم توجد المعاوضة وضمان الغصب والاستهلاك كالكفالة لأنه معاوضة انتهاء، وكذا ما يلزم أحدهما من الديون بسبب تصح فيه الشركة كالبيع والإجارة ونحوهما يلزم شريكه، وما لزم بسبب لا تصح فيه الشركة لا يلزم كالنكاح وبدل الخلع والصلح عن دم العمد ونحوه. قال: (فإن ملك أحدهما ما تصح فيه الشركة صارت عنانا) لزوال المساواة، وذلك مثل الإرث والوصية والاتهاب والمساواة في العنان ليست بشرط فتصير عنانا لوجود شرائطها (وكذا في كل موضع فسدت فيه المفاوضة لفوات شرط لا يشترط في العنان) فتصير عنانا وإن ملك شيئا لا تصح فيه الشركة كالعقار والعروض، فالمفاوضة بحالها لأن ذلك لا يبطلها في الابتداء فكذا حالة البقاء. قال: (ولا تنعقد المفاوضة والعنان إلا بالدراهم والدنانير وتبريهما إن جرى التعامل به وبالفلوس الرائجة) أما الدراهم والدنانير فلأنهما ثمن الأشياء خلقة ووضعا ولا خلاف في ذلك. وأما التبر فقيل يجوز مطلقا لأن الذهب والفضة خلقا ثمنين؛ وقيل لا يجوز إلا بالتعامل وهو الأصح لأنهما وإن خلقا للثمنية لكن بوصف الضرب حتى لا ينصرف الاسم عند الإطلاق إلى التبر، وإنما ينصرف إلى المضروب، إلا أنا أجرينا التعامل مجرى الضرب عملا بالعرف فألحقناه بهما عند التعامل؛ وإن كان لأحدهما دراهم وللآخر دنانير، أو لأحدهما سود وللآخر بيض جازت المفاوضة إن استوت قيمتهما، لأنه جنس واحد من حيث الثمنية، وإن تفاضلا في القيمة لا تصح المفاوضة وتصير عنانا لما تقدم. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز وإن استويا في القيمة، وهو قول زفر، لأن الشركة تنبئ عن الخلطة، ولا اختلاط مع اختلاف الجنس. وجوابه أنهما جنس واحد من حيث الثمنية نظرا إلى المقصود على ما بينا. وأما الفلوس فلأنها إذا راجت التحقت بالأثمان. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنه لا يجوز لأن ثمنيتها تتعين بالاصطلاح ومحمد مرّ على أصله في ثمنيتها حتى لا تتعين بالتعيين حالة النفاق والرواج. قال: (ولا تصح بالعروض) لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن، لأنه لا بد من بيعها، فإذا باع أحدهما عروضه بألف وباع الآخر عروضه بألف وخمسمائة ومقتضى العقد الشركة في الكيل، فما يأخذه صاحب الألف زيادة على الألف ربح ما لم يضمن، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عن ربح ما لم يضمن). قال: (إلا أن يبيع أحدهما نصف عروضه بنصف عروض الآخر إذا كانت قيمتاهما على السواء) فتنعقد شركة أملاك (ثم يعقدان الشركة) على قيمتها وهذه شركة العروض؛ وإن اشتركا على أن يبيع كل واحد منهما عروضه ويكون ثمنه بينهما لا يجوز لما تقدم. وتصح الشركة بالمكيل والموزون والمعدود المتفاوت إذا خلطا واتحد الجنس، وما ربحا لهما والوضيعة عليهما. وذكر الكرخي أن عند أبي يوسف رحمه الله: هي شركة أملاك لأنها ليست بأثمان فلا يصح التفاضل في الربح. وعند محمد: تصح شركة عقد بالخلط لأنها تصلح ثمنا لوجوبها دينا في الذمة، إلا أن قبل الخلط لا تتحقق الوكالة، فإنه لو قال له: اشتر بحنطتك شيئا على أن يكون بيننا لا يصح، لأن توكيل الغير ببيع ملك نفسه لا يجوز، وبعد الخلط تتحقق الوكالة فصحت الشركة. قال: (وشركة العنان تصح مع التفاضل في المال) إلا أنها لا تقتضي المساواة فيتجوز أن يشتركا في عموم التجارات وفي خصوصها وببعض ماله لأنها تنبئ عن الحبس، يقال: عنّ الرجل إذا حبس، والعنين محبوس عن النساء، والعنان يحبس الدابة عن بعض الإطلاق، فكأن شريك العنان حبس بعض ماله عن الشركة، أو حبس شريكه عن بعض التجارات في ماله، وتعتبر قيمة رأس المالين المختلفين يوم الشركة، لأنه إما يستحق زيادة الربح بالشرط يوم الشركة، ويعتبر قيمتهما يوم الشراء ليعرف مقدار ملكهما في المشترى، لأن حقهما ينتقل إلى المشتري بالشراء، ويعتبر قيمتهما يوم القسمة أيضا، لأن عند القسمة يظهر الربح. قال: (وتصح مع التفاضل في المال والتساوي في الربح إذا عملا أو شرطا زيادة الربح للعامل) وقال زفر: لا تصح المساواة في المال والتفاوت في الربح ولا على العكس، ولا يجوز إلا أن يكون الربح على قدر رأس المال، لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن كالمفاوضة، ولأنه لا يجوز اشتراط الوضيعة هكذا فكذا الربح. ولنا قول علي رضي الله عنه: الربح على ما اشترط المتعاقدان، والوضيعة على المال. ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كالمضارب، فإن أحدهما قد يكون أعرف بأمور التجارات وأهدى إلى البياعات فلا يرضى بالمساواة. (وإذا تساويا في المال وشرطا التفاوت في الربح والوضيعة، فالربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين) قال صلى الله عليه وسلم: (الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين). من غير فصل، ولأنا جوزنا اشتراط زيادة في الربح بمقابلة العمل تقديرا. أما زيادة الوضيعة فلا وجه لها، وصار كما إذا شرطا الوضيعة على الضارب فإنه لا يصح كذلك هنا. قال: (وتنعقد على الوكالة) لما مر (ولا تنعقد على الكفالة) لأنها إنما ثبتت في المفاوضة قضية للمساواة ولا مساواة هنا. قال: (ولا تصح فيما لا تصح الوكالة به كالاحتطاب والاحتشاش) لأن الوكالة في ذلك باطلة لأنها مباحة، لأن الآخذ يملكه بدون التوكيل فيكون فاعلا لنفسه، ومن ذلك اجتناء الثمار من الجبال والاصطياد وحفر المعادن وأخذ الملح والجص والكحل وغيرها من المباحات (وما جمعه كل واحد منهما فهو له) دون صاحبه لأنه مباح سبقت يده عليه (فإنه أعانه الآخر فله أجر مثله) بالغا ما بلغ لأن الشركة متى فسدت صارت إجارة فاسدة، ولو استأجره في ذلك بنصف المجموع كان له أجر المثل بالغا ما بلغ كذلك هنا. وقال أبو يوسف: له أجر مثله لا يجاوز به نصف الثمن تحقيقا للفائدة، وهذه الشركة فاسدة. قال: (وإن هلك المالان أو أحدهما في شركة العنان قبل الشراء بطلت الشركة) أما إذا هلكا فلأن المعقود عليه المال وأنه يتعين فيها كالهبة والوصية وقد هلك فيبطل العقد كالبيع، وأما إذا هلك أحدهما فلأن الآخر ما رضي بشركة في ماله إلا ليشركه في ماله أيضا، وقد فاتت الشركة في الهالك فيفوت الرضى فيبطل العقد. قال: (وإن اشترى أحدهما بماله ثم هلك مال الآخر فالمشترى بينهما على ما شرطا) لانعقاد الشركة وقت الشراء (ويرجع على صاحبه بحصته من الثمن) لأنه اشترى له بالوكالة ونقد الثمن من ماله فيرجع عليه لما مر (وإن هلك أحد المالين ثم اشترى أحدهما فالمشترى لصاحب المال خاصة) لأن الوكالة بطلت بهلاك أحد المالين كما تقدم فيكون مشتريا لنفسه خاصة، وإن كانا نصا على الوكالة في عقد الشركة كان المشتري بينهما على ما شرطا وتكون شركة أملاك، لأن الشركة بطلت لما بينا، والمشتري بحكم الوكالة المصرح بها لا بحكم الشركة المعقودة فكانت شركة أملاك، ويرجع عليه بحصته من الثمن لما مر. قال: (ولا يجوز أن يشترطا لأحدهما دراهم مسماة من الربح) لأنه قد لا يربح ما سميا أو يربح ذلك لا غير فتبطل الشركة فكان شرطا مبطلا للشركة فلا يجوز. قال: (ولشريك العنان والمفاوض أن يوكل ويبضع ويضارب ويودع ويستأجر على العمل) لأن كل ذلك من أفعال التجار (وهو أمين في المال) لأنه قبضه من المالك بإذنه وليس له أن يشارك لأن الشيء لا يستتبع مثله، فلو شارك المفاوض عنانا جاز عليهما لأنه دون المفاوضة، ولو فاوضه جاز بإذن شريكه، فإن لم يأذن ينعقد عنانا لأن الشيء لا يستتبع مثله، فإذا أجاز المفاوضة كانت شركة مبتدأة وإلا فهي عنان لأنه لا بد له من الاستعانة بغيره وهذا دونه فيجوز كالمضارب له أن يوكل وليس له أن يضارب. قال: (وشركة الصنائع) وتسمى شركة التقبل، وهي (أن يشترك صانعان اتفقا في الصنعة أو اختلفا على أن يتقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما فيجوز) وقال زفر: لا يجوز مع اختلاف العمل لأن الشركة تنبئ عن الخلطة ولا اختلاط مع الاختلاف. ولنا أنها شركة في ضمان العمل وفيما يستفاد به وهو الأجر لا في نفس العمل، والوكالة فيه ممكنة، لأن ما يتقبل كل واحد منهما من العمل فهو أصيل في نصفه وكيل في نصفه، وبذلك تتحقق الشركة؛ ولو استويا في العمل وتفاضلا في المال جاز أيضا، لأن الأجرة بدل عملهما، وأنهما يتفاوتان فيكون أحدهما أجود عملا وأحسن صناعة فيجوز؛ والقياس أن لا يجوز لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن، لأن الضمان بقدر العمل فالزيادة عليه زيادة ربح ما لم يضمن. قلنا المأخوذ هنا ليس بربح، لأن الربح يقتضي المجانسة بينه وبين رأس المال ولا مجانسة، لأن رأس المال هو العمل والربح مال فكان بدل العمل على ما بينا. قال: (وما يتقبله أحدهما يلزمهما فيطالب كل واحد منهما بالعمل ويطالب بالأجر) استحسانا. والقياس أنه لا يلزم شريكه، لأن ذلك مقتضى المفاوضة والشركة هنا مطلقة؛ وجه الاستحسان أن هذه الشركة تقتضي الضمان حتى كان ما يتقبله كل واحد منهما مضمونا على الآخر، ويستوجب الأجر بما تقبله شريكه فكان كالمفاوضة في ضمان الأعمال والمطالبة بالأبدال. قال: (وشركة الوجوه جائزة) وتسمى شركة المفاليس (وهي أن يشتركا على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا) سميت بذلك لأن الشراء بالنسيئة إنما يكون لمن له وجاهة عند الناس، والتعامل بذلك جائز بين الناس من غير نكير. قال: (وتنعقد على الوكالة) لأن التصرف على الغير إنما يجوز بوكالته إذ لا ولاية عليه وهذا عند الإطلاق، ولو شرط الكفالة أيضا جاز وتكون مفاوضة لأنه يمكن تحقيق ذلك، لكن عند الإطلاق بصرف إلى العنان لأنه أدنى. قال: (وإن شرطا أن المشترى بينهما فالربح كذلك، ولا تجوز الزيادة فيه) لأن استحقاق الربح بالضمان، والضمان يتبع الملك في المشتري فيتقدر بقدره. قال: (وإن اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي الماء لا يصح، والكسب للعامل) لأن الماء مباح وأخذه لا يستفاد بالوكالة وقد تقدم (وعليه أجرة بغل الآخر أو راويته) لأنه قد انتفع بملك الغير بعقد فاسد فيلزمه أجرته. قال: (والربح في الشركة الفاسدة على قدر المال ويبطل شرط الزيادة) لأن الربح تبع لرأس المال فيتبعه في الملكية، والزيادة إنما تستحق بالشرط وقد بطل. قال: (وإذا مات أحد الشريكين أو لحق بدار الحرب مرتدا بطلت الشركة) لتضمنها الوكالة، وهي تبطل بذلك على ما مر. قال: (وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه) لأن ذلك ليس بداخل في الشركة لأنه ليس من التجارة (فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه فأديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه، وإن أديا متعاقبا ضمن الثاني للأول علم بأدائه أو لم يعلم) عند أبي حنيفة رحمه الله، وعنه إن لم يعلم لا يضمن وهو قولهما، لأنه مأمور بالدفع إلى الفقير وقد فعل. وله أنه مأمور بالدفع إليه زكاة، والمدفوع لم يقع زكاة فكان مخالفا، ولأنه أمره بأداء يخرجه عن العهدة ولم يوجد فكان مخالفا فيضمن، والله أعلم.
وهي مفاعلة من الضرب، وهو السير في الأرض، قال الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} [النساء: 101] الآية، وسمي هذا النوع من التصرف مضاربة لأن فائدته وهو الربح لا تحصل غالبا إلا بالضرب في الأرض، وهي بلغة الحجاز مقارضة، وإنما اخترنا المضاربة لموافقته نص القرآن، وهو قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] أي يسافرون للتجارة، وهو عقد مشروع بالآية وبالسنة، وهو ما روي أن العباس كان يدفع ماله مضاربة، ويشترط على مضاربه أن لا يسلك به بحرا وأن لا ينزل واديا ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل ذلك ضمن، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاستحسنه وأجازه، وبعث عليه الصلاة والسلام والناس يتعاملونه فأقرهم عليه. وعن عمر رضي الله عنه أنه دفع مال اليتيم مضاربة وعليه الإجماع، ولأن للناس حاجة إلى ذلك لأن منهم الغني الغبي عن التصرفات، والفقير الذكي العارف بأنواع التجارات، فمست الحاجة إلى شرعيته تحصيلا لمصلحتها. وتنعقد بقوله دفعت هذا المال إليك مضاربة أو مقارضة أو معاملة، أو خذ هذا المال واعمل فيه على أن لك نصف الربح أو ثلثه، أو قال: خذ هذه الألف واعمل بها بالنصف أو بالثلث استحسانا، لأن البيع والشراء صار مذكورا بذكر العمل، والنصف متى ذكر عقيب البيع والشراء يراد بن النصف من الربح عرفا وأنه كالمشروط، ولو قال: خذ هذا المال بالنصف كان مضاربة استحسانا عملا بالعرف. وشرائطها خمسة: أحدها أنها لا تجوز إلا بالنقدين. الثاني: إعلام رأس المال عند العقد، إما بالإشارة أو بالتسمية، ويكون مسلما إلى المضارب. الثالث: أن يكون الربح شائعا بينهما. الرابع: إعلام قدر الربح لكل واحد منهما. الخامس: أن يكون المشروط للمضارب من الربح، حتى لو شرطه من رأس المال أو منهما فسدت على ما يأتيك إن شاء الله تعالى. قال: (المضارب شريك رب المال في الربح، ورأس ماله الضرب في الأرض) لأنه لو لم يكن شريكه في الربح لا يكون مضاربة على ما نبينه إن شاء الله. قال: (فإذا سُلم رأس المال إليه فهو أمانة) لأنه قبضه بإذن المالك (فإذا تصرف فيه فهو وكيل) لأنه تصرف فيه بأمره (فإذا ربح صار شريكا) لأنه ملك جزءا من الربح (فإن شرط الربح للمضارب فهو قرض) لأن كل ربح لا يملك إلا بملك رأس المال، فلما شرط له جميع الربح فقد ملكه رأس المال، ثم قوله مضاربة شرط لرده فيكون قرضا (وإن شرط لرب المال فهو بضاعة) هذا معناها عرقا وشرعا (وإذا فسدت المضاربة فهي إجارة فاسدة) لأنه عمل له بأجر مجهول فيستحق أجر مثله لما مر (وإذا خالف صار غاصبا) لأنه تصرف في ملك الغير بغير رضاه فكان غاضبا، ولا تصح إلا بما تصح به الشركة. قال: (ولا تصح إلا أن يكون الربح بينهما مشاعا، فإن شرط لأحدهما دراهم مسماة فسدت) لما مر في الشركة، وكذا كل شرط يوجب الجهالة في الربح يفسدها لاختلال المقصود (والربح لرب المال) لأن الربح تبع للمال لأنه نماؤه (وللمضارب أجر مثله) لأنها فسدت ولا يتجاوز به المسمى عند أبي يوسف، وهو نظير مما مر في الشركة الفاسدة، وهكذا كل موضع لا تصح فيه المضاربة. وتجب الأجرة وإن لم يعمل لأن الأجير يستحق الأجرة بتسليم نفسه وقد سلم. وعن أبي يوسف أنه لا يستحق حتى يربح كالصحيحة، والمال أمانة كالصحيحة، أو لأنه أجير خاص. قال: (واشتراط الوضيعة على المضارب باطل) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: الربح على ما اشترطوا عليه، والوضيعة على المال ولأنه تصرف فيه بأمره فصار كالوكيل. قال: (ولا بد أن يكون المال مسلما إلى المضارب) لأنه لا يقدر على العمل إلا باليد، فيجب أن تخلص يده فيه وتنقطع عنه يد رب المال. قال: (وللمضارب أن يبيع ويشتري بالنقد والنسيئة ويوكل ويسافر ويبضع) وأصله أن المضارب مأمور بالتجارة، فيدخل تحت الإذن كل ما هو تجارة أو ما لا بد للتجارة منه: كالبيع والشراء والباقي من أعمال التجارة، وكذلك الإيداع ولأنها دون المضاربة فيدخل تحت الأمر. قال: (ولا يضارب إلا بإذن رب المال، أو بقوله: اعمل برأيك) لأن الشيء لا يستتبع مثله لاستوائهما في القوة فاحتاج إلى التنصيص أو مطلق التفويض، إلا أنه ليس له الإقراض لأن الإطلاق فيما هو من أمور التجارة لا غير. قال: (وليس له أن يتعدى البلد والسلعة والمعامل الذي عينه رب المال) لما روينا من حديث العباس رضي الله عنه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دفع المال مضاربة وقال: لا تسلف مالنا في الحيوان، ولأنها وكالة، وفي التخصيص فائدة فيتخصص، ولو خالفه كان مشتريا لنفسه وربحه له، لأنه لما خالف صار غصبا فأخذ حكم الغصب، ثم قيل يضمن بنفس الإخراج من البلد لوجود المخالفة، وقيل لا يضمن ما لم يشتر لاحتمال عوده إلى البلد قبل الشراء، فإذا عاد زال الضمان وصار مضاربة على حاله بالعقد الأول كالمودع إذا خالف ثم عاد. والمضاربة نوعان: عامة، وخاصة. فالعامة نوعان: أحدهما: أن يدفع المال إليه مضاربة ولم يقل له اعمل برأيك، فيملك جميع التصرفات التي يحتاج إليها في التجارة ويدخل فيه الرهن والارتهان والاستئجار والحط بالعيب والاحتيال بمال المضاربة، وكل ما يعمله التجار غير التبرعات والمضاربة والشركة والخلط والاستدانة على المضاربة، وقد مر الوجه فيه. والثاني أن يقول له: اعمل برأيك، فيجوز له ما ذكرنا من التصرفات والمضاربة والشركة والخلط لأن ذلك مما يفعله التجار، وليس له الإقراض والتبرعات لأنه ليس من التجارة فلا يتناوله الأمر. والخاصة ثلاثة أنواع: أحدها أن يخصه ببلد فيقول: على أن تعمل بالكوفة أو بالبصرة. والثاني أن يخصه بشخص بعينه بأن يقول: على أن تبيع من فلان وتشتري منه، فلا يجوز التصرف مع غيره لأنه قيد مفيد لجواز وثوقه به في المعاملات. الثالث أن يخصه بنوع من أنواع التجارات بأن يقول له: على أن تعمل به مضاربة في البزّ أو في الطعام أو في الصرف ونحوه، وفي كل ذلك يتقيد بأمره ولا يجوز له مخالفته لأنه مقيد وقد مر الوجه فيه، ولو قال: على أن تعمل بسوق الكوفة فعمل في موضع آخر منها جاز لأن أماكن المصر كلها سواء في السفر والنقد والأمن، ولو قال: لا تعمل إلا في سوق فعمل في غيره ضمن لأنه صرّح بالنهي؛ ولو دفع المال مضاربة في الكوفة على أن يشتري من أهلها فاشترى من غيرهم فيها جاز لأن المقصود المكان عرفا؛ وكذلك لو دفعه مضاربة في الصرف على أن يشتري من الصيارفة ويبيعهم فاشترى من غيرهم جاز لأن المراد النوع عرفا. قال: (وإن وقّت لها وقتا بطلت بمضيه) لأن التوقيت مقيد وهو وكيل فيتقيد بما وقّته كالتقييد بالنوع والبلد. قال: (وليس له أن يزوج عبدا ولا أمة من مال المضاربة) وهو على الخلاف الذي مر في المأذون. قال: (ولا يشتري من يعتق على رب المال) لأنه يعتق عليه فتبطل المضاربة، وهو إنما وكله بالتصرف في المال لا بإبطال العقد (فإن فعل ضمنه) معناه صار مشتريا لنفسه فيضمن الثمن كالوكيل بالشراء إذا خالف. قال: (ولا من يعتق عليه إن كان في المال ربح) لأنه يملك نصيبه فيعتق عليه فيفسد الباقي أو يعتق فيمتنع التصرف فيه، فإن اشتراه كان مشتريا لنفسه فيضمن الثمن لأنه أداه من مال الغير. قال: (فإن لم يكن في المال ربح فاشترى من يعتق عليه صح البيع) لعدم المانع (فإن ربح عتق نصيبه) لأنه ملك قريبه ولا ضمان عليه لأنه عتق بالربح لا بصنعه (ويسعى العبد في قيمة نصيب رب المال) لأن ماليته صارت محبوسة عنده فيسعى كالعبد الموروث إذا عتق على أحد الورثة يسعى في نصيب الباقين. قال: (فلو دفع إليه المال مضاربة وقال: ما رزق الله بيننا نصفان وأذن له في الدفع مضاربة، فدفع إلى آخر بالثلث فنصف الربح لرب المال بالشرط، والسدس للأول، والثلث للثاني) لأنه لما شرط رب المال لنفسه النصف بقي النصف للمضارب، فلما شرط الثلث للثاني انصرف تصرفه إلى نصيبه فيبقى له السدس ويطيب له كأجير الخياط (وإن دفع الأول إلى الثاني بالنصف فلا شيء له) لأنه جعل نصفه للثاني فلم يبق له شيء، كمن استأجره لخياطة ثوب بدرهم فاستأجر غيره ليخيطه بدرهم (وإن دفعه على أن للثاني الثلثين ضمن الأول للثاني قدر السدس من الربح) لأنه ضمن الثاني ثلثي الربح وبعضه وهو النصف ملكه وبعضه وهو السدس ملك رب المال فلا ينفذ لأنه إبطال ملك الغير لكن التسمية صحيحة لكونها معلومة في عقد يملكه، وقد ضمن له السلامة فيلزمه الوفاء، وصار كمن استأجر خياطا لخياطة ثوب بدرهم فاستأجر الخياط غيره ليخيطه بدرهم ونصف. (ولو قال: ما رزقك الله فلي نصفه، فما شرطه للثاني فهو له) عملا بالشرط لأنه ملكه من جهة رب المال (والباقي بين رب المال والمضارب الأول نصفان) لأن رب المال جعل لنفسه نصف ما رزقه الله، وإنما رزقه نصف الربح فيكون بينهما نصفان؛ وكذلك إذا قال: ما ربحت أو كسبت أو رزقت أو ما كان لك فيه من فضل أو ربح فهو بيننا نصفان، فإنه ينطلق إلى ما بعد شرط للثاني لما بينا. (ولو قال: على أن ما رزق الله بيننا نصفان فدفعه إلى آخر بالنصف فدفعه الثاني إلى ثالث بالثلث فالنصف لرب المال، وللثالث الثلث، وللثاني السدس ولا شيء للأول) لأنه لما شرط النصف للثاني وانصرف إلى نصيبه لما بينا فلم يبق له شيء والباقي على ما شرطاه لما بينا. وإذا لم يؤذن للمضارب في الدفع مضاربة فدفعه إلى غيره مضاربة ضمن عند زفر لوجود المخالفة، وقالا: لا يضمن ما لم يعمل لأن الدفع لا يتقرر مضاربة إلا بالعمل، وقال أبو حنيفة: لا يضمن ما لم يربح لما بينا في أول الباب أن الدفع قبل العمل أمانة وبعد العمل مباضعة وهو يملك ذلك، فإذا ربح صار شريكا في المال فيضمن كما إذا خلط بمال آخر ولا ضمان على الثاني لأن فعله يضاف إلى الأول، لأنه هو الذي أثبت له ولاية التصرف، فإن استهلكه الثاني فالضمان على الأول خاصة، وعندهما يضمن الثاني وهو نظير مودع المودع، والأشهر أن يخير ههنا فيضمن أيهما شاء الأول لما بينا والثاني لإبطاله حق رب المال فكان متعديا في حقه، ولو كانت المضاربة فاسدة لا ضمان عليه لأن الثاني أجير فيه، وله أجر مثله فلا يكون شريكا، ولو دفع المال إلى رجلين مضاربة بالنصف وقال: اعملا برأيكما، أو لم يقل فليس لأحدهما أن ينفرد لأن التجارة يحتاج فيها إلى الرأي، فإن عمل أحدها بنصف المال بغير أمر صاحبه ضمن النصف، وإن عمل بأمر الآخر لم يضمن لأنه كالوكيل عنه، وما ربح نصفه لرب المال ونصفه بينهما نصفان.
ونفقة المضارب في مال المضاربة ما دام في سفره حتى يعود إلى مصره، وإن كان ما دون مدة السفر إذا كان لا يبيت بأهله، وإن كان يبيت فلا نفقة له، وكذا لا نفقة له ما دام في مصره، لأن النفقة جزاء الاحتباس، فإذا كان في مصره لا يكون محتبسا في المضاربة وفي السفر يكون محتبسا فيها، وإذا اتخذ مصرا آخر دارا أو تزوج به فهو كمصره ونفقته في الحاجة الدارة كالطعام والشراب والكسوة وفراش النوم ودابة الركوب وعلفها ومن يطبخ له ويغسل ثيابه وأجرة الحمام ودهن السراج والحطب، وتجب نفقة مثله بالمعروف ونفقة غلمانه ودوابه الذين يعملون معه في المال، وتحتسب النفقة من الربح، فإن لم يكن فمن رأس المال؛ ولو أنفق من مال نفسه أو استدان لنفقته رجع في مال المضاربة؛ ولو ضارب لرجلين فنفقته على قدر المالين، ولو كان أحد المالين بضاعة فالجميع على المضاربة لأن السفر واقع لها، ولو كانت المضاربة فاسدة لا نفقة للمضارب لأنه أجير ونفقة الأجير على نفسه. قال: (وتبطل المضاربة بموت المضارب وبموت رب المال) لأنها وكالة وأنها تبطل بالموت لما مر. قال: (وبردة رب المال ولحاقه مرتدا) لأنه موت حكما على ما عرف (ولا تبطل بردة المضارب) لأن ملك رب المال باق، وعبارة المرتد معتبرة. قال: (ولا ينعزل بعزله ما لم يعلم) كالوكيل (فلو باع واشترى بعد العزل قبل العلم نفذ) لبقاء الوكالة (فإن علم بالعزل والمال من جنس رأس المال لم يجز له أن يتصرف فيه) لأنه صار أجنبيا بالعزل ولا ضرر عليه في ذلك (وإن كان خلاف جنسه فله أن يبيعه حتى يصير من جنسه) لأن له حقا في الربح، وهو إنما يظهر إذا علم رأس المال، وإنما يعلم إذا نضّ وإنما ينضّ بالبيع، فإذا نضّ لا يتصرف فيه، وموت أحدهما ولحاقه بدار الحرب كالعزل. قال: (وإذا افترقا وفي المال ديون وليس فيه ربح وكل رب المال على اقتضائها) لأنه وكيل متبرع بالعمل فلا يلزمه الاقتضاء إلا أنه لما كان عاقدا والحقوق ترجع إليه فلا بد من وكالته (وإن كان فيه ربح أجبر على اقتضائها) لأن الربح بمنزلة الأجرة فكان أجيرا فيجب عليه تمام العمل. قال: (وما هلك من مال المضاربة فمن الربح) لأنه تبع كالعفو في باب الزكاة (فإن زاد فمن رأس المال) لأن المضارب أمين فلا ضمان عليه، فإن اقتسما الربح والمضاربة بحالها ثم هلك المال أو بعضه رجع في الربح حتى يستوفي رأس المال، لأن الربح فضل على رأس المال، ولا يعرف الفضل إلا بعد سلامة رأس المال فلا يصح قسمته فينصرف الهلاك إليه لما بينا، ويبتدأ أولا برأس المال ثم بالنفقة ثم بالربح الأهم فالأهم؛ ولو فسخه المضاربة ثم اقتسما الربح ثم عقدا المضاربة فهلك رأس المال لم يترادا الربح، لأن هذه المضاربة جديدة، والأولى قد انتهت فانتهى حكمها، ولو مرّ المضارب على السلطان فأخذ منه شيئا كرها لا ضمان عليه، وإن دفع إليه شيئا ليكف عنه ضمن، لأنه ليس من أمور التجارة، وكذلك إذا أراد العاشر أن يأخذ منه العشر فصالحه المضارب بشيء من المال حتى كف عنه ضمن، والله عز وجل أعلم.
|